لا يحكمون، بل يرهنون البلاد. فهؤلاء الذين يديرون الجزائر من خلف الستار منذ عقود لا يبحثون عن بناء دولة، بل عن تمديد وصايتهم عبر بيع ما تبقى من ثروات الوطن. آخر ذريعة لهم هي الاستثمار في استخراج الغاز غير التقليدي، تحت مسميات “التحديث” و“الانطلاقة الجديدة”، بينما الحقيقة أنها مجرد محاولة يائسة من نظام ريعي منهَك يبادل السيادة بوعود أجنبية مقابل البقاء في السلطة.
يقدّمون لنا شركات الطاقة العالمية كـ“فرصة تاريخية”، شركات لا ترى في الصحراء إلا مقاطعة طيّعة بلا نقاش عام ولا رقابة ولا مطالب بيئية. بالنسبة إليها، الجزائر المثالية هي فضاء مفتوح للثقب والتكسير، ولتجريب التقنيات، ولتصريف المخاطر بعيداً عن بلدانها. أما بالنسبة لنا، فالصورة واضحة: تكاليف مضاعفة، موارد مائية تُستنزف بلا تعويض، مواد كيميائية تتسلل أسرع من الحقيقة، وصحراء تُحوَّل إلى حقل تجارب ملوّث.
يحسن النظام حساب خانة “المداخيل” ويخفي خانة “الكلفة”. فالتكسير الهيدروليكي يعني آلاف الآبار في وقت واحد، وكل بئر يبتلع عشرات الآلاف من الأمتار المكعبة من الماء، تُعاد العملية مراراً. نعم، خزّان الصحراء يبدو ضخماً على الورق، لكنه يتجدد ببطء شديد بينما ترتفع الملوحة، وتتسمم التربة، وتظهر الانهيارات الأرضية. والتجارب حول العالم شاهدة: حيث سبقت الشركاتُ العلمَ والحذر، كان الثمن انهيار الأرض وفساد الماء وصمت السكان.
سيقال لنا إن “الماء مجاني” وتكاليفه “مضمونة”. ترجمة ذلك: ستتكفل الدولة بتغطية العبث. سيتم تعميم الخسائر وتخصيص الأرباح، ثم تسويق العملية بوصفها “وطنية”. سيقال لنا أيضاً إن الصحراء “واسعة” و“فارغة”، وهو تزييف فجّ. فالصحراء نظام بيئي كامل، لها طبقات مائية ووظائف طبيعية ومجتمعات بشرية وذاكرة. والمزارع الصناعية التي اجتاحت الجنوب دليل حي: إنتاج وفير في البداية، ثم ملوحة، ثم تدهور، ثم هجران. ومع ذلك يُراد إضافة مشروع تكسير هيدروليكي ضخم إلى هذه الكارثة المائية؟ إنها سياسة تخريب بطيء: غير مرئية أولاً، غير قابلة للعكس لاحقاً.
سيقال لنا إن “الأمن مضمون”. المنطق نفسه دائماً: ما دام الربح متدفقاً فكل شيء “قابل للإدارة”. لكن الأمن الحقيقي ليس هو الأسوار والحراسات، بل الأمن المائي والغذائي والصحي للناس، وهو يتهاوى حين تتحول المياه الجوفية إلى مقابر كيميائية ويتصدّع باطن الأرض بفعل الممارسات الصناعية. سنصدّر الغاز ونستورد الأمراض.
يعدون بسرعة الإنجاز، لكن الجيولوجيا تضحك. فالسنوات الطويلة المطلوبة للتنقيب والحفر الأفقي ومعالجة المياه وتوسيع البنى التحتية كفيلة بأن تجعل العالم يتغير: الطاقة الشمسية تزداد رخصاً، التخزين يتحسن، الكفاءة ترتفع. وستصبح “الر rentsة” التي يتوسلونها اليوم متقادمة قبل أن يخرج أول متر مكعب من الغاز. وكالعادة، سنظل آخر من يتمسّك بقطار الوقود الأحفوري وهو يتباطأ.
سيُقال إن “نوعية الغاز ممتازة” وإن قرب الأسواق ميزة. لكن الحقيقة أن بئر الغاز غير التقليدي يعيش بضع سنوات فقط، ما يعني أن الحفر لن يتوقف، كمدمن يضاعف الجرعة للحفاظ على الوهم. وفي النهاية، سنجد أنفسنا أمام ثقوب وبقايا كيميائية ومياه ملوثة وتربة مشققة ودفاتر محاسبة مظلمة وعقود مغلقة. وسيُسمّى ذلك “تنمية”. إنه في الواقع فوضى مدعومة.
وجوهر الجريمة هو هنا: الطبقة الجوفية الألبية. ليست مخزوناً، بل معجزة جيولوجية احتفظت بها الطبيعة عبر آلاف السنين. السلطة العسكرية تريد تحويلها إلى رقم في جدول مالي، بينما تستعد شركات مثل ExxonMobil وChevron لغرس قشّاتها الصناعية فيها باسم “ترشيد المياه”. كل عملية تكسير تعني عشرات آلاف الأمتار المكعبة تُنتزع من هذا الإرث المائي، ومواد مضافة تتسرب إلى الشقوق، وأملاحاً ترتفع، وتربة تموت. سيقال إن “المعايير محترمة”، لكن المعايير تتبخر حين تتنازل الدولة عن دورها. وتلويث هذه الطبقة ليس مجرد خطأ تقني، إنه سرقة مستقبل أمة بالكامل.
ما الذي يريده الحكم العسكري؟ الوقت. يشتريه بالدخول في اللاممكن. يصنع تبعية قانونية ومالية وتقنية، ويخلق ندرة مصطنعة لابتزاز الناس: “اقبلوا التلوث والجفاف أو تقبلوا انهيار الخدمات والاقتصاد”. ويعيد تسويق الخضوع باعتباره “استقراراً”. ولتحقيق هذا، يفرش السجاد الأحمر لشركات النفط الأمريكية، مستعداً لتحويل ماء البلاد وتربتها إلى أرقام في جداول مكاتب نيويورك.
وفي الوقت ذاته، تجلس الجزائر تحت أشعة الشمس على أحد أكبر كنوز الطاقة الشمسية في العالم، دون أن تتحول هذه الثروة إلى ازدهار. لأنها تحتاج إلى دولة، لا إلى ثكنة. تحتاج إلى قوانين شفافة، لا إلى أوامر. تحتاج إلى صناعة خضراء، لا مشاريع عملاقة بلا بيئة صناعية. تحتاج إلى إدارة للمياه، لا إلى نزيف.
المسألة ليست تقنية بين خبراء. إنها خيار حضاري. تلويث الطبقة الألبية، ثقب الصحراء، استيراد سموم الآخرين وتصدير غاز قصير العمر لإطالة عمر سلطة طويلة العطالة: هذا فعل سياسي ضد الأمة. الخطاب الرسمي يسمّيه “تنويعاً”، والواقع يسمّيه تصفية للأصول الحيوية لشراء أشهر إضافية من الهدوء.
ما نحتاجه ليس المزيد من آبار الغاز، بل بئراً ديمقراطية واحدة: السيادة الشعبية، الشفافية، المحاسبة، وتخطيط موجه نحو الماء والطاقة الشمسية والزراعة الذكية والصناعة النظيفة. فطالما القرار محجوز لدى نفس الفئة، ستظل سياسة الاستخراج هي نفسها سياسة استخراج السياسة: نهب الأرض ونهب المواطن.
لقد آن الأوان لإغلاق صفحة التخريب المربح. لرفض شيك الطاقة على بياض، ورفض تسميم المياه، ورفض خطاب الثكنة الذي يلبس الفشل ثوب الهيبة. التفويض الذي تريده هذه السلطة ليس تفويضاً للتنمية، بل تفويضاً للتصفية. ولذا نقول: لن نوقع على بيع مياهنا وصحتنا ومستقبل أطفالنا. التكسير الوحيد الذي تحتاجه الجزائر هو التكسير السياسي: كسر قبضة الاستبداد وإعادة القرار إلى صاحبه الحقيقي الشعب.



تعليقات
0لا يوجد تعليقات بعد..