في الجزائر، يبدو أن الكلمات تُرعب السلطة أكثر من القنابل. فقد تجرّع الشاعر محمد تجاديت، الملقب بـ«شاعر الحراك»، من جديد مرارة هذا الواقع القاسي.
بقلم: هشام عبود
هذا الشاب، ابن القصبة، تلك القلعة التي تختزن الذاكرة والمقاومة، حُكم عليه بخمس سنوات سجن بتهمة «تمجيد الإرهاب». أمّا جريمته الحقيقية، فهي أنه جعل ضمائر الناس تهتز عبر قصائده، وأيقظ فيهم وعياً حاولت السلطة تخديره.
فما إن خرج من مرحلة المراهقة حتى اصطدم تجاديت بعالم السجون مع بروز الثنائي تبون-شنقريحة، التجسيد الفعلي لسلطةٍ مدنية-عسكرية تتعامل مع الشعر كما لو كان فعلاً تخريبياً. وكما حدث مع الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم، الذي سُجن سبعة عشر عاماً في عهد أنور السادات لأنه قال الحقيقة شعراً، يجسد تجاديت اليوم سلالة الشعراء الذين تخشاهم الديكتاتوريات أكثر من الثوار. لأن أسلحتهم كلمات والكلمات، بخلاف البنادق، لا تُفرَّغ من ذخيرتها أبداً.
حين تصبح الكلمة تهديداً
منذ عام 2019، تم اعتقال محمد تجاديت ومحاكمته وإطلاق سراحه ثم سجنه مجدداً ما لا يقل عن ست مرات. في كل مرة، يتكرر السيناريو ذاته: تهمة مفصّلة على المقاس لتجريم الفكر الحر. لقد أصبحت «تمجيد الإرهاب» غطاءً يستر به النظام طبيعته القمعية. وباسم «الأمن القومي»، يصنّف النظام الجزائري ضمن أعداء الدولة كل من يجرؤ على الكلام أو الكتابة أو الغناء عن الجزائر بغير لغتها الرسمية وشعاراتها المعلبة.
قصائد تجاديت، سواء أُلقيت في الساحات أو نُشرت على فيسبوك، تُقلق السلطة. لأنها توقظ شعباً يراد له أن ينام تحت التخدير الجماعي للأكاذيب والدعاية والوعود الفارغة. قصائده تتحدث عن الألم، عن البؤس، عن الظلم. تذكّر أن قصبة الجزائر، معقل النضال ضد الاستعمار، لم تُنجب عبيداً بل أحراراً عصيّين على الانكسار.
نظام عارٍ وعدالة مسيّسة
صدر الحكم في 11 نوفمبر: خمس سنوات سجناً بتهمة «دعم منظمات إرهابية» و«نشر أفكار متطرفة». النيابة طلبت عشر سنوات، والقاضية نطقت بخمس. لكن في الواقع، الحكم الحقيقي لم يُنزل على شاعر واحد فقط، بل على شعبٍ بأكمله: كمامة على الفم، وخوف مزروع في الصدر.
لم تتأخر المنظمات الدولية في الرد. فقد نددت منظمة العفو الدولية، وPEN America، وأكثر من عشرين منظمة غير حكومية بالحكم، واعتبرته «بلا أساس»، وطالبت بالإفراج الفوري عنه. وأكدت أن اضطهاد تجاديت قائم فقط على نشاطه السلمي وشعره، مما يشكل انتهاكاً صارخاً للحقوق الأساسية. لكن في الجزائر، تتبدد هذه النداءات في الفراغ: فالسلطة لا تصغي لشيء سوى لوساوسها الأمنية.
من بوتفليقة إلى تبون: استمرارية الصمت
كان الحراك الذي انطلق في فبراير 2019 يحمل أملاً بولادة ديمقراطية جديدة. وبعد شهرين فقط، سقط بوتفليقة تحت ضغط الشارع. لكن النظام، وهو يظن أنه أطفأ النيران، نصّب تبون رئيساً وشنقريحة قائداً فعلياً. ثم جاء وباء كوفيد-19، ليُستعمل كذريعة مثالية لحظر التجمعات وسجن رموز الحراك. مرّ الوباء، لكن القمع بقي. وهكذا تحولت «الجزائر الجديدة» إلى «الجزائر المخنوقة».
خوف الطغاة من الشعراء
محمد تجاديت ليس إرهابياً، بل مرآة. وهذه المرآة تعكس للنظام صورته الحقيقية التي يحاول إخفاءها: سلطة هشة، بلا شرعية ولا رؤية، لا تستمد قوتها إلا من الخوف والرقابة. في جزائر اليوم، كتابة قصيدة تعادل رفع سلاح، وإلقاء بيت شعر يُعد جريمة دولة.
لطالما خاف الطغاة من الشعراء، لأنهم يعلمون أن الكلمات تعيش أطول من السجون، وأن الأبيات المنقوشة في ذاكرة الشعوب قادرة، عاجلاً أم آجلاً، على شق جدران الصمت.



تعليقات
0لا يوجد تعليقات بعد..