حطّت طائرة عسكرية ألمانية مساء الأربعاء 12 نوفمبر على مدرج مطار فيلي برانت في برلين. على متنها رجل منهك، بملامح ضعيفة خرجت من سنة كاملة من الاعتقال التعسفي في الجزائر: الكاتب الجزائري الفرنسي بوعلام صنصال. وقد نال العفو في اللحظة الأخيرة من عبد المجيد تبون، عقب تدخّل مباشر من الرئيس الألماني الاتحادي فرانك-فالتر شتاينماير. ويدخل صاحب رواية 2084 الآن سباقًا ضد الزمن: سباق البقاء وتلقي العلاج، بعيدًا عن السجن الذي انهارت فيه صحته.
استقبال متواضع… لكنه بالغ الرمزية
لا كاميرات، لا بساط أحمر. مجرد مراسم قصيرة في المنطقة العسكرية للمطار، بحضور السفير الفرنسي. تحية سريعة، لحظة صمت، ثم نُقل صنصال مباشرة إلى مستشفى عسكري يقع على بُعد مئات الأمتار من مستشفى “شاريتيه” الشهير، أحد أكبر المراكز الجامعية الطبية في أوروبا.
في هذه “القلعة الطبية” الواقعة في شارع شارنهورست 13، لا يوجد ما يدل على أن كاتبًا عالميًا يقيم هناك. الدخول يخضع لرقابة جنود بزي رسمي، والهواتف المحمولة ممنوعة. لافتات متتالية على الواجهة تذكّر: «ممنوع التصوير أو التسجيل». فهنا، تُعدّ السرية قاعدة ذهبية، بل وحماية دبلوماسية غير معلنة.
هناك خضع صنصال لأول سلسلة من الفحوصات. مصاب بسرطان البروستات، ومنهك بعد عام من الاعتقال، وقد أُدخل إلى واحد من أفضل أقسام المسالك البولية والأورام في ألمانيا وهو مستوى من الرعاية لم تستطع الجزائر، أو لم ترغب، في تقديمه له.
إطلاق سراح لم يفاجئ أحدًا في ألمانيا
في برلين، لم يفاجئ هذا التطور كثيرين. فألمانيا تربطها بالجزائر علاقات وثيقة، عززتها الرحلات العلاجية المتكررة للرئيس تبون نفسه: كولونيا عام 2020، ثم زيارتان طبيتان جديدتان في 2023 و2024، زيارات غذّت تكهنات الصحافة الألمانية حول الوضع الصحي الحقيقي لرئيس الدولة.
في هذا السياق، جاءت رسالة فرانك-فالتر شتاينماير. مبادرة إنسانية بالفعل، لكنها ذات بُعد سياسي واضح أيضًا: فبرلين تعرف صنصال، وتحترم أعماله، وتدرك وزنه في المشهد الفكري الأوروبي.
كاتب مُلاحق… ومُكرّم بقوة في ألمانيا
في ألمانيا، بوعلام صنصال ليس مجهولًا. فهو حائز على جائزة اتحاد المكتبيين الألمان، ودُعي مرات عدة من قبل أنجيلا ميركل، وألقى محاضرات أمام السفراء الألمان. ويُعتبر صوتًا بارزًا في الأدب الملتزم.
وفي برلين تحديدًا كتب روايته الشهيرة 2084: نهاية العالم، التي ينتقد فيها “الإسلاموية التوتاليتارية”، رواية جلبت له فتاوى تهديد… ولكن أيضًا احترامًا كبيرًا في الأوساط الثقافية الأوروبية.
المفارقة مؤلمة: مُحتفى به في ألمانيا… ومُطارَد في الجزائر.
رمز جديد في قضية عبرت فيها الحرية الحدود كي تنتصر.
عودة إلى الضوء… لكن المعركة مستمرة
إطلاق سراح صنصال انتصار انتصار دبلوماسي وإنساني وأخلاقي في مواجهة نظام لا يزال يخنق كتّابه وصحافييه ونشطاءه.
عاد الروائي إلى الضوء، لكنه يحمل آثار سنة من السجن الظالم.
وإقامته في برلين ليست إلا مرحلة: مرحلة إعادة البناء، جسديًا وفكريًا، في بلد طالما اعتبره واحدًا من رموزه الثقافية.
وسيسجّل التاريخ أن أحد أكبر الكتّاب الجزائريين المعاصرين وجد في برلين لا في الجزائر الملجأ والعلاج والكرامة.
صورة… ورسالة: إصبع احتقار يعبر المتوسّط
ثم هناك تلك الصورة.
التُقطت داخل غرفة المستشفى العسكري الباردة، أنابيب طبية ظاهرة، تعب واضح… وفي المنتصف، يد بوعلام صنصال. يد مرفوعة، الأصابع مطوية… باستثناء واحد: إصبع الاحتقار، واضح، هادئ، شبه مطمئن.
إشارة بسيطة… لكنها ذات قوة سياسية استثنائية.
من سرير المستشفى، يوجّه الكاتب لعبد المجيد تبون الرسالة التي لا يمكن لأي خطاب أن يعبّر عنها بهذا الوضوح:
يمكنك إسكات الكاتب… لكنك لا تستطيع نزع كرامته ولا شجاعته.
ذلك الإصبع هو ردّ رجل مُنهَك لكنه واقف، مريض لكنه حر، مُضعف لكنه سليم الروح.
إنه صفعة لاذعة لنظام ظنّ أنه قادر على إطفائه عبر سجنه.
صنصال كما نعرفه وكما نحبّه يرسل من برلين الصورة التي يحاول النظام الجزائري طمسها منذ سنوات:
صورة دولة تسجن مفكريها… وتضطر لمشاهدة أحدهم ينهض بعيدًا عنها ويُريها حرفيًا رأيه في قمعها.
إيماءة ستبقى، كخط حاد في هواء برلين البارد، تقول كل شيء:
الحرية لا تُمنح… بل تُنتزع، وأحيانًا… تُرفع بإصبع واحد.



تعليقات
0لا يوجد تعليقات بعد..