حجم الخط + -

✍️ عبد الرحمن فارس

اجتمع أكثر من اثنين وعشرين رئيس دولة وحكومة في قمة السلام في شرم الشيخ في 13 أكتوبر 2025، من أجل وضع حدٍّ للحرب في غزة وإطلاق مرحلة جديدة في الشرق الأوسط. هدفت القمة إلى إقرار خطة وقف إطلاق النار، والإفراج عن الرهائن، وتأسيس سلطة انتقالية في غزة من دون مشاركة حركة حماس.

في مشهد دبلوماسي غير مسبوق منذ بداية النزاع، جمعت القمة تقريبًا كل القوى المعنية بالملف الفلسطيني. وقد ترأسها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بمشاركة محمود عباس (فلسطين)، بنيامين نتنياهو (إسرائيل)، أنطونيو غوتيريش (الأمم المتحدة)، أحمد أبو الغيط (جامعة الدول العربية)، الملك عبد الله الثاني (الأردن)، الأمير تميم بن حمد آل ثاني (قطر)، الملك حمد بن عيسى آل خليفة (البحرين)، رجب طيب أردوغان (تركيا)، جوكو ويدودو (إندونيسيا)، محمد شياع السوداني (العراق)، أحمد العبد الله الصباح (الكويت)، جاستن ترودو (كندا)، أنطونيو كوستا (الاتحاد الأوروبي)، إيمانويل ماكرون (فرنسا)، فريدريش ميرتس (ألمانيا)، كير ستارمر (بريطانيا)، جورجيا ميلوني (إيطاليا)، بيدرو سانشيز (إسبانيا)، يوناس غار ستوره (النرويج)، إلى جانب رؤساء وزراء من اليونان والمجر وباكستان وأرمينيا، منصور بن زايد ومحمد بن راشد (الإمارات)، فيصل بن فرحان (السعودية)، وزيري خارجية عُمان والهند، ماسّاكي نوكي (سفير اليابان في مصر)، ورئيسي أذربيجان وقبرص.

أما الجزائر، فكانت غائبة عن قائمة المدعوين.

قبل ثلاثة أيام من القمة، ألقى الرئيس عبد المجيد تبون خطابًا أمام كبار ضباط الجيش الوطني الشعبي في وزارة الدفاع، بثّه التلفزيون، وتناول فيه قضايا الدفاع والاقتصاد والفساد والسياسة الخارجية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. لم يحضر أي وزير أو دبلوماسي أو خبير اقتصادي  فقط جنرالات وضباط كبار. لم يكن الخطاب موجّهًا للشعب الجزائري أو للعالم، بل للمؤسسة التي تضمن بقاءه في الحكم.

في كلمته، قدّم تبون الجزائر بوصفها «المدافع الشرس» عن فلسطين في مجلس الأمن، واعتبر ذلك «شرفًا للجزائر ولشهدائها ولمواقفها الوطنية». وقال إن الحفاظ على مثل هذه المواقف يتطلب من الدولة أن «تتحكم في خبزها واستقلالها ونفقاتها، وألا تمد يدها لأحد»، في إشارة ضمنية إلى مصر التي يُنظر إليها كمعتمدة على المساعدات الاقتصادية الخارجية. وأضاف أن موقف الجزائر «لم ولن يتغير»، رغم صداقتها مع دول «تنتهج سياسة معاكسة»، في تلميح واضح إلى الدول العربية التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل.

وأكد أن «قيام دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس هو الحل الوحيد»، وأن أي تسوية أخرى ستكون «إبادة جماعية  ذكية، فاسدة، أو لشعب بأكمله». ووصف ما يجري في غزة بأنه «إبادة لآلاف الأطفال والنساء»، قائلاً إنها المرة الأولى في التاريخ التي «يرى فيها الجميع المجازر بأعينهم». وشبّه الفلسطينيين الشهداء بـ«شهداء الحرية الجزائريين».

وقال تبون إن «جزائريين قاتلوا في فلسطين عام 1948»، وإن «الجزائر أدخلت فلسطين إلى الأمم المتحدة بصفة مراقب عام 1974»، وإنها «استقبلت ياسر عرفات عام 1982» عندما اشتدت الأزمة على الفلسطينيين، قبل أن يُعلن قيام الدولة الفلسطينية في الجزائر. وأضاف أن «الجزائر لم تتردد في دعم فلسطين حتى عندما هُدد نادي الصنوبر بالقصف». وختم قائلاً: «ما قمنا به لم يكن انتظارًا لمكافأة أو شكر، بل واجبًا أوصانا به شهداؤنا»، مختتمًا بعبارة:

«للصديق كما للعدو، أقول: نحن مع فلسطين، ظالمة أو مظلومة».

تحويل العزلة إلى فضيلة

تشديد تبون على ضرورة «التحكم في الخبز وعدم مد اليد» يكشف عن عقيدة نظام يحوّل الضعف الاقتصادي إلى فضيلة أيديولوجية. وقد كان كلامه تلميحًا إلى مصر، معتبرًا أن اعتمادها على المساعدات الأجنبية يفقدها شرعيتها الأخلاقية. لكن المفارقة واضحة: الاقتصاد الجزائري يعتمد بالكامل تقريبًا على صادرات المحروقات، والتمويل الصيني، واستيراد السلاح من روسيا. علنًا، يندد النظام بالاعتماد على الخارج؛ وسرًا، تعيش نخبته من أوروبا أبناء المسؤولين يدرسون في فرنسا، ويتعالجون في ألمانيا وسويسرا وبلجيكا.

وهكذا، يصبح خطاب الاكتفاء الذاتي درعًا سياسيًا: فالعزلة تُقدَّم كرمز للسيادة، وكل تعاون مع الغرب أو الخليج يُعتبر خيانة للمبدأ.

عندما تتحوّل اللامبالاة إلى فضيلة أخلاقية

باعتبار كل حل جزئي «إبادة جماعية»، وإعلانه الوقوف مع فلسطين «ظالمة أو مظلومة»، يُظهر تبون تفضيل النظام للخطاب الأخلاقي النقي على حساب الدبلوماسية الواقعية.
في الماضي، لعبت الجزائر دور الوسيط الحقيقي، فجمعت فصائل فلسطينية، وفتحت قنوات مع حزب الله، وأحيانًا مع واشنطن. أما اليوم، فقدت الجزائر مصداقيتها ونفوذها، واستعاضت عنه بموقف أخلاقي متعالٍ.

العزلة كعقيدة

بحسب خطاب تبون، المشاركة في الدبلوماسية تعني الخضوع، أما الإقصاء فيعني الاستقلال. هذه المعادلة المقلوبة تختصر السياسة الخارجية للنظام الجزائري: فقدان النفوذ يُقدَّم كدليل على الطهر والنقاء الوطني. وبسبب تشبثه بموقفه من قضية الصحراء الغربية وتوتره مع أوروبا، أصبح النظام يحوّل تهميشه الدولي إلى وسام شرف.

النتيجة: دوامة مغلقة تبرر الفشل الخارجي بخطاب أخلاقي، وتحوّل العزلة إلى «هيبة وطنية».

إعداد الجزائر للعزلة الموجهة

خطاب تبون يندرج ضمن استراتيجية أوسع يضعها قادة الجيش لتجنّب انهيار النظام عبر خلق عزلة مقصودة. السردية الجديدة الجزائر الفاضلة، المحاصرة، الوحيدة في مواجهة عالم معادٍ — تتيح للنظام تفسير الانكماش الاقتصادي، والعزلة الدبلوماسية، والشلل السياسي على أنها علامات نزاهة لا فشل.

من خلال استدعاء قضية غزة وشعار «الاكتفاء الذاتي»، يمهّد تبون لطريق أيديولوجي نحو مرحلة من الانغلاق الاقتصادي والسياسي، تحت غطاء «الكرامة الوطنية» و«الاستقلال السيادي».
تم تحويل قضية غزة إلى ذريعة سياسية داخلية لتغذية شعور بالحصار وتبرير تشديد القبضة العسكرية وإسكات المعارضة.

إن غياب تبون عن قمة شرم الشيخ وخطابه أمام الجيش يُعدّان إنذارين واضحين بأن النظام يُعدّ لأزمة مصطنعة تهدف إلى تبرير العزلة الدولية للجزائر  بتحويل الإقصاء الدبلوماسي والتهميش الدولي إلى دليل على النزاهة والطهارة الوطنية.