بعد أكثر من عام من الأزمة المفتوحة بين فرنسا والجزائر، صرح رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسية (DGSE)، نيكولا ليرنر، بأنه يرصد بعض “الإشارات” على تهدئة الأوضاع القادمة من الجزائر. ومن جانبَي الطرفين، تظهر بعض الخطوات المترددة التي توحي باستئناف تدريجي للحوار.
بقلم: هشام عبود
تبدو العلاقات الفرنسية-الجزائرية، المجمدة منذ أكثر من عام في مأزق دبلوماسي غير مسبوق، وكأنها تشهد أولى بوادر الانفراج. ففي تصريح له يوم الاثنين 10 نوفمبر، قال مدير جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسي، نيكولا ليرنر، إنه يلاحظ “إشارات، عامة وخاصة، تصدر عن الجزائر” تشير إلى “إمكانية استئناف الحوار” مع باريس.
إنها تصريح معتدل لكنه ذو دلالة، يعكس تغييرًا في النبرة بعد فترة اتسمت بالشك والتوتر. وأضاف رئيس الاستخبارات الفرنسية: “لم تُقطع قنوات الاتصال بالكامل أبدًا، لكن التعاون في مجال مكافحة الإرهاب وصل إلى أدنى مستوياته”، مؤكدًا أنه “ليس في مصلحة أي من البلدين البقاء في حالة الجمود هذه”.
وترجع الخلافات بين باريس والجزائر إلى صيف 2024، عندما أعادت فرنسا التأكيد علنًا على دعمها للخطة المغربية لمنح الصحراء الغربية حكما ذاتيًا، والتي اعترفت بها الولايات المتحدة منذ 2020 كأساس جاد وموثوق لحل النزاع. وقد أثار هذا الموقف غضب النظام الجزائري، الذي استدعى سفيره من باريس وندد بما وصفه بـ”موقف منحاز”.
وتفاقمت الأزمة بعد اعتقال مواطنين فرنسيين في الجزائر: الكاتب بوعلام صنصال، الذي اعتقل في 16 نوفمبر 2024 وحُكم عليه بخمس سنوات سجن بتهمة “الإضرار بالوحدة الوطنية”؛ والصحفي كريستوف غليز، مراسل صحيفة SoFoot، الذي حُكم عليه بالسجن سبع سنوات بتهمة “الترويج للإرهاب”. ويواجه غليز، المتهم بالحفاظ على اتصالات مع نشطاء حركة المطالبة بتقرير المصير في القبائل (MAK) المصنفة “منظمة إرهابية” من قبل الجزائر، جلسة استئناف في 3 ديسمبر المقبل.
وقد أدت هذه القضايا إلى غرق العلاقات الثنائية في أزمة ثقة عميقة، اتسمت بتعليق التعاون الأمني، وتقليص التبادلات الاقتصادية، واستدعاء الدبلوماسيين من كلا الطرفين. وقد تحدثت باريس عن “انقطاع خطير للثقة”، في حين نددت الجزائر بما وصفته بـ”حملة معادية” نظمها بعض الإعلام الفرنسي.
وبحسب عدة مصادر دبلوماسية، فإن الإشارات على التهدئة قد تكاثرت خلال الأسابيع الأخيرة. ويُتوقع أن يمنح الرئيس عبد المجيد تبون عفوا رئاسيا لبوُعـلام صنصال، بعد طلب من الرئيس الألماني الفيدرالي، في خطوة تُفسر على أنها أول إشارة ملموسة على رغبة في الانفتاح.
علامة بارزة أخرى: لأول مرة منذ اندلاع الأزمة، تحدثت وسائل الإعلام العمومية الجزائرية عن صنصال دون استخدام الخطاب الإهاني المعتاد، منهية بذلك سنوات من تشويه صورة الكاتب.
وبالتوازي، تعمل عدة قنوات غير رسمية على إعادة تفعيل الحوار بين العاصمتين. فمن الجانب الجزائري، يلعب شمس الدين محمد حفيظ، رئيس جامعة المسجد الكبير في باريس، دور الوسيط غير الرسمي كحلقة ثقة للنظام. ومن الجانب الفرنسي، استقبل رئيس أساقفة الجزائر، المطران جان-بول فيسكو، عدة مرات من قبل الرئيس تبون، في إطار مناقشات سرية تهدف إلى إعادة بناء مناخ ثقة.
وأخيرًا، ساهمت تسمية لوران نونيز وزيرًا للداخلية الفرنسية، خلفًا لشخصيات أكثر عداءً للجزائر، في تهدئة الأجواء. ويُعتبر نونيز رجل حوار، وقد تبنى نهجًا أكثر براغماتية وأقل أيديولوجية في الملف الجزائري.
ورغم أن استئناف الحوار يبدو بدأ، إلا أن العقبات ما تزال عديدة. فالشك المتبادل، الذي تغذيه عقود من النزاعات التاريخية والاختلافات السياسية والتنافس الإقليمي، ما زال عميقًا. لكن الضرورات الأمنية في منطقة الساحل والصحراء، وأزمة الهجرة، والتحديات الطاقية، تدفع العاصمتين لاستئناف مستوى معين من التنسيق.
كما أشار دبلوماسي أوروبي في بروكسل: “لا فرنسا ولا الجزائر لهما مصلحة في الحفاظ على برودة مستمرة؛ فكلا البلدين يشتركان في مصالح أمنية ونفوذ مترابطة بشكل وثيق لا يمكن تجاهله”.
يبقى السؤال: هل ستؤدي هذه “الإشارات” التي أشار إليها نيكولا ليرنر إلى استئناف حقيقي للعلاقات الثنائية، أم أنها مجرد لعبة مظاهر قبل الانتخابات المقبلة على ضفتي المتوسط؟ في الوقت الحالي، تسود الحذر في باريس والجزائر على حد سواء. لكن شيء واحد مؤكد: بعد عام من التجميد الدبلوماسي، يبدو أن الأجواء بدأت تتنفس من جديد بين الضفتين — بخجل وحذر، لكنها بشكل حازم.



تعليقات
0لا يوجد تعليقات بعد..