حجم الخط + -

بقلم: هشام عبود

إن تقييم السياسات العمومية، خصوصًا في دول العالم الثالث، غالبًا ما يشبه عبور حقل ألغام. ليس لغياب عناصر التقييم، بل لأن النقد يُنظر إليه كإهانة أو حتى كفعل خيانة.

في كثير من الدول العربية، يُغلق باب النقاش الموضوعي، وتُكمم أفواه الإعلام، ويحاط الحاكم بحلقة من المادحين المستعدين لترديد أناشيد الثناء على سلطة لا تقبل أي مراجعة. في هذا المناخ الجامد، يتأرجح الخطاب الرسمي بين التهاني الذاتية الفجة وإنكار الواقع، وكأن كل شيء على ما يرام في أفضل العوالم الممكنة.

لكن هناك استثناءات. المغرب من بينها. فعند التعمق في السياسة الخارجية المغربية، وخصوصًا في إفريقيا، يجد المراقب الجاد والنزيه أنه أمام حصيلة واضحة وموثقة لا تحتاج إلى دعاية مبالغ فيها أو شعارات طنانة؛ فالوقائع تتحدث عن نفسها، والأرقام تدعم الديناميات، والإنجازات الملموسة تجسد الرؤية الاستراتيجية للمملكة.

في إفريقيا، لم تكن السياسة الخارجية المغربية مجرد محور دبلوماسي، بل هي العمود الفقري. قبل أن يسطع نجمها دوليًا، عملت المملكة بشكل منهجي على بناء مكانتها كقوة إفريقية رائدة، من خلال شراكات قائمة على المصداقية والثبات والثقة.

هذا النفوذ لم يكن وليد صدفة، بل هو امتداد طبيعي لسياسة داخلية مُحكمة، هدفها الأول خدمة المواطن المغربي. عبر جذب استثمارات وطنية وأجنبية ضخمة، تمكن المغرب خلال عقود قليلة من إحداث تحول عميق أهّله للانتقال إلى مصاف الدول الصاعدة.

اليوم، يجمع المغرب بين مستوى معيشي قريب من المعايير الأوروبية وبين غناه الثقافي ونكهاته المغاربية. شبكته الطرقية والسككية تضاهي كثيرًا من الدول المتقدمة، وقطار البراق – الفريد من نوعه في القارة – يرمز لهذه الريادة التكنولوجية واللوجستية. تغطي الطرق السيارة معظم التراب الوطني، وتدعم البنى التحتية الاجتماعية والاقتصادية نموًا ملهمًا ومثيرًا للإعجاب.

من الانسحاب من منظمة الوحدة الإفريقية إلى الهجوم القاري

تاريخ السياسة الإفريقية للمغرب مليء بالمواقف الحاسمة والتحولات الاستراتيجية الجريئة. فمنذ انسحابه الصاخب من منظمة الوحدة الإفريقية سنة 1984، إلى عودته المحسوبة إلى الاتحاد الإفريقي عام 2017، استطاعت المملكة تحويل العزلة إلى استراتيجية استعادة نفوذ هادئة ولكن فعالة.

في عام 1984، غادر المغرب المنظمة القارية احتجاجًا على قبول “الجمهورية الصحراوية” الوهمية التي أعلنها البوليساريو بدعم جزائري، معتبرًا الصحراء جزءًا لا يتجزأ من ترابه الوطني. وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود، ظل بعيدًا عن المنابر الإفريقية الرسمية، لكنه حافظ على علاقات ثنائية قوية مع عدد من الدول، خاصة الناطقة بالفرنسية، متجاوزًا المنصات التي كانت تتبنى مواقف معادية له.

دبلوماسية ثنائية نشطة (1984–2010)

ابتعد المغرب عن الصراع المباشر داخل الأطر القارية، لكنه اتجه نحو عمل دبلوماسي هادئ وفعّال. الملك الحسن الثاني، ثم الملك محمد السادس، رسّخا علاقات خاصة مع قادة دول غرب إفريقيا، عبر دعم تقني واتفاقات تجارية وتعاون في مجالات متعددة. بالتوازي، عملت المملكة على سحب اعتراف عدة دول بـ”الكيان الوهمي” وتوسيع حضورها الاقتصادي في قطاعات الخدمات والزراعة والاتصالات والتمويل.

عهد محمد السادس: إفريقيا أولوية

مع تولي الملك محمد السادس الحكم عام 1999، أصبحت إفريقيا محورًا أساسيًا في الاستراتيجية المغربية. كثّف الملك زياراته للقارة، ووقّع مئات الاتفاقيات، وعزز الروابط الدينية عبر التصوف، وفتح المجال أمام الشركات المغربية الكبرى لغزو الأسواق الإفريقية.

لم تعد القضية الصحراوية هي المحرك الوحيد، بل قدم المغرب نفسه كنموذج للتعاون “جنوب–جنوب” قائم على المنفعة المشتركة، وجسر يربط إفريقيا بأوروبا والعالم العربي.

العودة إلى الاتحاد الإفريقي (2017)

في يناير 2017، عاد المغرب إلى الاتحاد الإفريقي بعد حملة دبلوماسية دامت أكثر من عقد، وبدعم غالبية الدول الأعضاء، دون أن يعني ذلك اعترافه بـ”الجمهورية الصحراوية”. كان الهدف واضحًا: التأثير من الداخل بدل ترك الساحة للمناوئين.

استراتيجية انتشار قارية متعددة الأبعاد

منذ العودة، توسع المغرب في القارة عبر أربعة محاور رئيسية:

  • الاقتصاد كمحرك نفوذ: استثمارات ضخمة للبنوك، وشركات التأمين، والاتصالات، والزراعة، والبناء في دول كـ السنغال، وكوت ديفوار، ونيجيريا.

  • القوة الناعمة الدينية: نشر التصوف، خاصة الطريقة التيجانية، وتدريب الأئمة، وتعزيز صورة الإسلام المعتدل.

  • الدبلوماسية الملكية المباشرة: زيارات الملك التي تُتوَّج غالبًا باتفاقات اقتصادية وسياسية.

  • الضغط السياسي والدبلوماسي: تفكيك الدعم للبوليساريو تدريجيًا من خلال الحضور النشط والتحالفات.

إفريقيا… رهان المستقبل المغربي

من العزلة إلى الريادة القارية، أدرك المغرب أن إفريقيا هي قارة المستقبل، فاندفع نحوها برؤية واضحة تجمع بين الاقتصاد والدبلوماسية والدين والسياسة. هذه الاستراتيجية تخدم أيضًا موقفه في قضية الصحراء وتوسع شبكة شركائه خارج أوروبا.

الأمن والدبلوماسية والمشاريع الكبرى

أولى المغرب أهمية قصوى للتعاون الأمني في مكافحة الإرهاب، وإدارة الهجرة، ومواجهة التطرف، من خلال برامج مع مالي، وبوركينا فاسو، والسنغال، وكوت ديفوار، ونيجيريا، وبلدان القرن الإفريقي، وحتى شمال إفريقيا.

كما أطلق مشاريع اقتصادية كبرى:

  • في السنغال: مساكن اجتماعية، جامعات خاصة، استثمارات زراعية.

  • في كوت ديفوار: مدن “محمد السادس” بمرافق متكاملة.

  • في نيجيريا: مشروع أنبوب الغاز العملاق، وصناعات الأسمدة.

  • في إثيوبيا: مصنع أسمدة هو الأكبر في إفريقيا.

  • في الغابون والكاميرون وأنغولا وموزمبيق وجنوب إفريقيا: شراكات في الصحة والزراعة والصناعة والتمويل.

استقرار المؤسسات… أساس النجاح الدبلوماسي المغربي

هذا النجاح لم يكن ليتحقق دون استقرار مؤسسات الدولة وكفاءة القائمين على السياسة الخارجية. الملك محمد السادس يمسك بزمام السياسة الخارجية مباشرة، ويعتمد على شخصيات وازنة مثل ناصر بوريطة، وزير الخارجية، وياسين المنصوري، مدير المخابرات الخارجية (DGED)، اللذين يتمتعان بثقة كاملة من الملك، ويُعتبران ركيزتين في الدبلوماسية المغربية المعاصرة.

بفضل هذه المعادلة بين الرؤية الملكية، واستقرار المؤسسات، وكفاءة الكوادر، استطاع المغرب أن يثبت نفسه كفاعل أساسي في إفريقيا، يحظى باحترام متزايد على الساحة القارية والدولية.