ذكرت تقارير صحافية أن الإمارات بدأت تعترف بأخطاء سياستها تجاه السودان بعد مجازر الفاشر، في أول اعتراف رسمي بانحراف نهجها منذ دعمها لقوات الدعم السريع عقب انقلاب 2021. وأوضحت هذه التقارير أن تصريحات المستشار الإماراتي أنور قرقاش تمثل تحولًا في الموقف الرسمي، ورغبة في الابتعاد عن ميليشيا حميدتي، التي أصبحت عبئًا سياسيًا وأخلاقيًا على أبوظبي، في ظل ضغوط دولية متزايدة وخشية من تأثير علاقاتها الاقتصادية العميقة، خاصة في مجال الذهب وموانئ البحر الأحمر، على مستقبل دورها في السودان.

وتشير صحيفة الغارديان إلى أن الإمارات، وللمرة الأولى، تعترف علنًا بأخطاء سياستها تجاه السودان، بعد أن تضررت سمعتها الدولية بسبب دعمها لقوات الدعم السريع، التي ارتكبت مجازر جماعية في مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، منذ سيطرتها عليها أواخر الشهر الماضي.

وفي كلمة ألقاها في البحرين، قال أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي البارز، إن الإمارات ودولًا أخرى “أخطأت حين لم تفرض عقوبات على منفذي انقلاب 2021″، الذي أطاح بالحكومة المدنية الانتقالية وقاده كل من عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي). وأضاف: “ارتكبنا جميعًا خطأً عندما سمحنا للجنرالين المتحاربين بإسقاط الحكومة المدنية. كان ذلك، بالنظر إلى الوراء، خطأً جوهريًا. كان ينبغي أن نتصرف بحزم ونصف ما حدث بالانقلاب، لكننا لم نفعل”.

يشكل هذا التصريح تحولًا واضحًا في موقف الإمارات، التي لعبت منذ سقوط نظام عمر البشير عام 2019 دورًا في إضعاف القوى المدنية وتعزيز نفوذ العسكريين تحت شعار “ضمان الاستقرار”.

من دعم العسكر إلى الاعتراف بالخطأ

بعد انتفاضة 2019، دعمت الإمارات والسعودية المجلس العسكري الانتقالي خلفًا للبشير، عبر حزمة مساعدات بلغت 3 مليارات دولار. لكن بعد استعادة المدنيين نفوذهم لاحقًا، جُمّد جزء كبير من هذه المساعدات، وهو ما اعتبره خبراء سببًا مباشرًا لانقلاب 2021، ثم للحرب الأهلية في 2023، وفقًا ليوناس هورنر من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. اليوم، وبعد أربع سنوات على الانقلاب، تعترف الإمارات لأول مرة بانحراف سياستها، وأنها مضطرة للابتعاد عن الدعم السريع الذي رعته.

تسليح سري ونفي رسمي

تشير تقارير أممية وصحافية إلى أن الإمارات زودت قوات الدعم السريع بالسلاح سرًا، رغم نفيها المتكرر. وفي يناير الماضي، فرضت إدارة بايدن عقوبات على حميدتي وسبع شركات مقرها الإمارات، متهمة إياها بتمويل الميليشيا.

وكانت جماعات مدنية سودانية حذّرت طوال 18 شهرًا من أن سيطرة الدعم السريع على الفاشر ستؤدي إلى مجازر ذات طابع عرقي، ما وضع مسؤولية خاصة على الإمارات. ورغم إدانة أبوظبي للمجازر، حاولت تحميل الجيش السوداني المسؤولية، معتبرة نفسها ضحية “حملات تضليل تقودها تيارات إسلامية داخل الجيش ومنظمات غربية معادية للإمارات”.

ويؤكد حقوقيون مثل ياسمين أحمد من هيومن رايتس ووتش أن اختبار صدق موقف الإمارات سيكون في مدى تعاونها مع لجنة الأمم المتحدة لحظر السلاح على السودان.

تشابك المصالح الاقتصادية والسياسية

ترتبط الإمارات بالسودان بعلاقات اقتصادية عميقة تعود لعقود، إذ تعتبره مصدرًا حيويًا للغذاء والمعادن وموقعًا استراتيجيًا على البحر الأحمر. ففي 2022، استثمرت موانئ أبوظبي نحو 6 مليارات دولار في مشروع ميناء أبو عمامة شمال بورتسودان، قبل أن يُلغيه البرهان لاحقًا، ما دفع الإمارات للتركيز على حماية مصالحها في أي تسوية سياسية مستقبلية.

ويظل الذهب المورد الأهم؛ حيث بلغت الصادرات الرسمية إلى الإمارات 1.52 مليار دولار في 2024، أي نحو 97% من مجمل صادرات السودان الرسمية، بينما تُهرّب نحو 90% من الإنتاج فعليًا بقيمة تقدّر بـ13.4 مليار دولار سنويًا. وترتبط عائلة حميدتي بعلاقات تجارية مباشرة مع الإمارات، وتمتلك عبر شركة الجنيد مناجم ذهب ضخمة في دارفور، كما أرسل آلاف المقاتلين إلى اليمن دعمًا للتحالف الذي تقوده الرياض وأبوظبي، ما عزّز الروابط السياسية والعسكرية.

وبجانب المصالح الاقتصادية، تتحكم الاعتبارات الإيديولوجية في سياسة الإمارات، التي ترى في الإسلام السياسي، وعلى رأسه جماعة الإخوان المسلمين، تهديدًا يجب احتواؤه، لذلك اعتبرت دعم حميدتي وسيلة لتقويض الإسلاميين المرتبطين بالبشير.

اختبار ما بعد الفاشر

بعد أن أصبح الدعم السريع عبئًا أخلاقيًا وسياسيًا، تواجه الإمارات اليوم ضغوطًا متزايدة للانخراط في حل الأزمة السودانية. وترى واشنطن أن التسوية تحتاج إلى تفاهم إماراتي-مصري للضغط على الطرفين المتحاربين (الدعم السريع والجيش) للوصول إلى وقف شامل لإطلاق النار.

وفي سبتمبر، وقّعت الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات بيانًا مشتركًا حدّد إطارًا لهدنة إنسانية مدتها ثلاثة أشهر، يليها مرحلة انتقالية مدنية تستمر تسعة أشهر. وجاء في البيان: “مستقبل الحكم في السودان يقرّره الشعب السوداني عبر عملية انتقالية شاملة لا تهيمن عليها أي جهة مسلحة”.

لكن الفقرة الأخيرة أكدت الحدود الحمراء للإمارات: “لا يمكن أن يُحدد مستقبل السودان من قبل جماعات متطرفة عنيفة مرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين”.

إلى أين تتجه أبوظبي؟

يبقى السؤال: هل تستطيع الإمارات فك ارتباطها بالدعم السريع؟
الإجابة تعتمد على ما إذا كانت تعتبر حميدتي شريكًا ضروريًا لتحقيق مصالحها الاقتصادية ومواجهة الإسلاميين، أم عبئًا يهدد صورتها كقوة “مستقرة وعقلانية”.

كما قال كيمرون هدسون، المسؤول الأمريكي السابق عن ملف السودان: “ما نراه من الإمارات هو إنكار كامل لأي دور لها. ما لم نتفق على الحقائق الأساسية حول ما يحدث ومن يقف وراءه، فلن نقترب من الحل”.

وتبقى المرحلة المقبلة حاسمة لتحديد ما إذا كانت أبوظبي ستنتقل من الإنكار إلى الفعل، ومن التمويل والنفي إلى المساءلة والمصالحة.